ثالثاً – هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة “المكتبية السلطوية” التي قامت ونشأت مع نظام الدواوين ثم تحولت الدواوين إلى ما يشبه المؤسسات وظل المواطن خاضع لها خضوعه للسلطة التي تستمد منها ومن قوانينها وتشريعاتها قوتها ، وقد قلبت آية الحياة الاجتماعية في بلادنا من عفوية فطرية إلى حياة لئيمة خبيثة ، ومن صدق واخلاص ، إلى لف ودوران وكذب وخداع ، ومن قانونية سعى لها كي تحميه إلى قانونية تتعسر معها مصالحه وتحقق للعاملين فيها الكسب والارتقاء في سلم الحياة الاجتماعية ، وتفشت فيها وبها الرشوة وتفاقمت لعنة المحسوبية وانتشر بها وباء الفساد.

فإن هذا الشاب العامل في هذه “المؤسسة “المكتبية السلطوية” لم يكن ينقصه شيء – ليكون مستقلا تمام الاستقلال في حياته أو عفوي وأمين وطموح وصالح قبل أن يلتحق بهذه المؤسسة – إلا قانون يحميه ، لكن هذه الظاهرة الجديدة تجعله يشعر بأنه عنده قوة لها أثر في الحياة الاجتماعية فأضحى مثله مثل زملائه ورؤسائه إنتهازي ؛ وأصبحت الطاقات الأخرى خارج هذه المؤسسات الفاسدة حاقدة كارهة متمردة قابلة للفساد أيضا. وأصبحت حالة اجتماعية وعبئ كبير على الأخلاق الاجتماعية ، ولكن في صورة جديدة بؤرتها المصالح الذاتية البحتة واعلاء الأنا وتعظيم المحسوبية والعيش من السحت والرشوة ، وهي صورة أخذت شكل صراع خفي بين الفئات كلها غنية وفقيرة وكبيرة وشابة.

رابعاً – لقد انحصر مظهر هذا الصراع في “الانتهازية والوصولية” وفي “الاستثناء والتمايز” .. تنظر الانتهازية إلى المركز دون العمل الجدي والكفاءة ، وتنظر إلى الجاه والسلطة دون القيام بالعمل النافع ، وتنظر إلى المنظرة والدعاية والمظهر دون الصدق والجوهر .. وهكذا شاع الكذب في كل مناحي الحياة الاجتماعية ؛ وهذه الخطوة الجديدة أحدثت ظاهرة أخرى وهي ظاهرة “القرابة والنسب أولى” كمظهر من مظاهر الفساد حيث اختفى مبدأ “تكافوء الفرص” وفسدت المؤسسات من انعدام الكفاءة ، وأصبحت الأولوية لأبناء العاملين والقريب والصهر وتعاظم دور الاستثناء والتمايز حتى صار القاعدة.

خامساً – ظاهرة “انعدام الكفاءة” عكف طبقة فريق “سين” ، طبقة أصحاب السلطة والجاه ومن معهم على مطلب آخر تتقي به النتائج التي تترتب على عدم استقلال الشخصية للطبقة العاملة ولم تجد من وسيلة أقرب من ترك التعليم يتدهور ومعه التربية والنشأة. والعمل على توظيف فئات مستثناة مع المحسوبيات لتتكون منهم طبقة الموظفين العاملين بالدولة وأجهزتها ومؤسساتها وتركوا الانتهازية والوصولية تتفشى دون العمل الجدي الكفؤ ، لكن طبقة الموظفين أخذت تزاحم طبقة السلطة والجاه في هذا المضمار ، فأخذوا يطمحون في المناصب العليا تدرجاً بصبر وقرب وصولي انتهازي وكذلك من اعداد أولادهم ليكونوا معهم فنجحوا.

ولكن بعد أن ملئت الحكومة بما تحتاج من الأبناء والكتبة الأقارب قام شعور جديد بأن أولاد موظفي الحكومة والأثرياء الذين أخرجوا أولادهم من محيط الشعب إلى محيط السلطة أحق بكل مركز ووظيفة من أبناء الشعب عامة وأبناء الجهلاء منه بالخصوص “فريق جيم”.

وأصبحنا الآن والموقف بين محظوظين ولدوا لأباء وأمهات في السلطة ينعمون فيها وبها ومتعلمون عاطلون يتطلعون إلى فرصة للعيش ، وجاهلون أو أنصاف تعلم لا عمدة لهم في الحياة إلا الموروث من فلح الأرض أو صناعة ابتدائية تعتمد على قوة العضلات وأدوات بسيطة مثل المحراث والفأس والمقطف .. وضاعت الغاية من التعليم لتخريج رجال مستقلين يكافحون في الحياة كفاح المنتج لا كفاح المستغل لكفاح غيره ، رأينا أن التعليم لم يف ببلوغ الغاية الأخيرة منه ، ومادمنا نرى أن ابن الفلاح والعامل والراعي والرجل العادي مهما كانت كفاءته وعمله وقدرته لا يجد الفرصة ، وأن البلاد تحولت إلى بلاد الفرصة لا القدرة.

وتحولت الحياة إلى حياة الركود لا حياة الكفاح وتدهورت الحياة إلى حد لا يوصف ، والريب العجيب أن أحداً أو كثير من بعض فئات الناس هنا لا يدري وهم سعداء بالحال.

ونكتفي هنا بهذا القدر من هذه الحقائق ونكمل الحديث إن شاء الله تعالى في المقالة القادمة لكشف نبع الطوفان ببلادنا “وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ”.